فضل الجهاد والمجاهدين ...للشيخ ابن باز رحمه الله
الحمد لله الذي أمر بالجهاد في سبيله , ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين, واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم ( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )(1 ) .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله, أفضل المجاهدين , وأصدق المناضلين , وأنصح العباد أجمعين صلي الله علية وسلم , وعلى آله الطيبين الطاهرين , وعلي أصحابه الكرام الذين باعوا أنفسهم لله, وجاهدوا في سبيله حتى اظهر الله بهم الدين وأعز بهم المؤمنين وأذل بهم الكافرين , رضي الله عنهم وأكرم مثواهم وجعلنا من اتباعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات , ومن أعظم الطاعات , بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض , وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين و إعلاء كلمه الدين , وقمع الكافرين والمنافقين , وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين , و إخراج العباد من الظلمات إلى النور ونشر محاسن الإسلام و أحكامه العادلة بين الخلق أجمعين, وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين.
وقد ورد في فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية ما يحفز الهمم العالية , ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل, والصدق في جهاد أعداء رب العالمين .
وهو فرض كفاية علي المسلمين إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين , وقد يكون في بعض الأحيان من الفرائض العينية التي لا يجوز للمسلم التخلف عنها إلا بعذر شرعي , كما لو استنفره الإمام أو حصر بلده العدو, أو كان حاضراً بين الصفين , و الأدلة علي ذلك من الكتاب والسنة معلومة .
ومما ورد في فضل الجهاد والمجاهدين من الكتاب المبين قوله تعالى
( انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ * لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ )( 2)
ففي هذه الآيات الكريمات يأمر الله عباده المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد خفافاً وثقالاً , أي شيباً وشبابا وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله , ويخبرهم عز وجل بأن ذلك خير لهم في الدنيا و الآخرة ,
ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم عن الجهاد وسوء نيتهم , وأن ذلك هلاك لهم بقوله عن وجل ( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ... )(3 ) .
ثم يعاتب نبيه صلي الله عليه وسلم عتابا لطيفا علي إذنه لمن طلب التخلف عن الجهاد بقوله سبحانه (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ )(4 )
ويبين عز وجل أن في عدم الإذن لهم تبيين للصادقين وفضيحة للكاذبين , ثم يذكر عز وجل أن المؤمن بالله واليوم و الآخر لا يستأذن في ترك الجهاد بغير عذر شرعي لان إيمانه الصادق بالله واليوم الآخر يمنعه من ذلك, ويحفزه إلى المبادرة إلى الجهاد والنفير مع أهله ,
ثم يذكر سبحانه أن الذي يستأذن في ترك الجهاد هو عادم الإيمان بالله واليوم الآخر المرتاب فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك أعظم حث وأبلغ تحريض علي الجهاد في سبيل الله , والتنفير من التخلف عنه .
وقال تعالى في فضل المجاهدين ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )(5 ) .
ففي هذه الآية الكريمة الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله علي الله عز وجل , أنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمنه لأهله الجنة, أنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون , ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها , التوراة , و الإنجيل والقرآن , ثم بين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله , ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم ويبذلوا السلعة التي واشتراها منهم , وهي نفوسهم وأموالهم في سبيله سبحانه عن ( إخلاص ) وصدق وطيب نفس حتى يستوفوا أجرهم كاملا في الدنيا و الآخرة,
ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا البيع لما فيه من الفوز العظيم , والعاقبة الحميدة , والنصر للحق والتأييد لأهله , وجهاد الكفار والمنافقين وإذلالهم ونصر أوليائه عليهم, وإفساح الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة.
وقال عز وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )( 6) .
في هذه الآيات الكريمات الدلالة من ربنا عز وجل على أن الإيمان بالله ورسوله والجهادَ في سبيله هما التجارة العظيمة المنجية من العذاب الأليم يوم القيامة , ففي ذلك أعظم ترغيب وأكمل تشويق إلى الإيمان والجهاد ,
ومن المعلوم أن الإيمان بالله ورسوله يتضمن توحيد الله و إخلاص العبادة له سبحانه, وكما يتضمن أداء الفرائض وترك المحارم ويدخل في ذلك الجهاد في سبيل الله لكونه من اعظم الشعائر الإسلامية ومن أهم الفرائض, ولكنه سبحانه خصه بالذكر لعظم وشأنه ,
وللترغيب فيه لما يترتب عليه من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي سبق بيان الكثير منها, ثم ذكر سبحانه ما وعد الله به المؤمنين المجاهدين من المغفرة والمساكن الطيبة في دار الكرامة ليعظم شوقهم إلى الجهاد وتشتد رغبتهم فيه , وليسابقوا إليه , ويسارعوا في مشاركة القائمين به , ثم أخبر سبحانه أن من ثواب المجاهدين شيئا معجلا يحبونه وهو النصر على الأعداء , والفتح القريب علي المؤمنين , وفي ذلك غاية التشويق والترغيب .
والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه وبيان فضل المجاهدين كثيرة جداً , وفيما ذكر سبحانه في هذه الآيات التي سلف ذكرها ما يكفي ويشفي ويحفز الهمم , ويحرك النفوس إلى تلك المطالب العالية والمنازل الرفيعة , والفوائد الجليلة , والعواقب الحميدة , والله المستعان .
--------------------------------
(1) الروم الآية 47 .
(2)سورة التوبة الآيات 41-45 .
(3)سورة التوبة الآية 42 .
(4) سورة التوبة الآية 43 .
(5)سورة التوبة الآية 111
(6)سورة الصف الآيات 10-13 .
http://www.binbaz.org.sa/mat/8525