ثالثا : أمور مهمة في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- :
- ومن الجوانب المهمة في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ أن سيرته - صلى الله عليه وسلم- في إيمانه وعبادته وخلقه وتعامله مع غيره، وفي جميع أحواله كانت سيرة مثالية في الواقع، ومؤثرة في النفوس؛ فقد اجتمعت فيها صفات الكمال وإيحاءات التأثير البشري، واقترن فيها القول بالعمل؛ ولا ريب أن الإيحاء العملي أقوى تأثيراً في النفوس من الاقتصار
على الإيحاء النظري؛ لهذه العلة أرسل الله تعالى الرسل ليخالطهم الناسُ ويقتدوا بهداهم، وأرسل الله سبحانه الرسولَ – صلى الله عليه وسلم- ليكون للناس أسوة حسنة يقتدون به، ويتأسون بسيرته، قال المولى – عز وجل- " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً" [الأحزاب:21]، وقد أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالتأسي به فقال :"صلوا كما رأيتموني أصلي" (9)، وقال – صلى الله عليه وسلم- :"لتأخُذُوا مناسِكَكُم" (10).
وقال بعضهم في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم- والتأسي به :
إذا نحن أدلجنا وأنت إمَامُنـا *** كفى بالمطايا طِيبُ ذِكراكَ حاديا
وإن نحن أضلَلْنَا الطريقَ ولم نجدْ*** دليلا كفَانَا نُورُ وَجْهِكَ هَاديـا (11)
ومن الأمور التي يجدر التنبيه عليها أيضا في الاقتداء بالنبي – صلى الله عليه وسلم والتأسي به:
- العمل بسنته باطنا وظاهرا: مثل سنن الاعتقاد ومجانبة البدعة وأهلها. والسنن المؤكدة : مثل سنن الأكل واللباس والوتر وركعتي الضحى، وسنن المناسك في الحج والعمرة ..
- تطبيق السنن المكانية : الذهاب إلى مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصلاة في مسجده، والصلاة في مسجد قباء، والصلاة في الروضة الشريفة، وهي من رياض الجنة التي ينبغي التنعم فيها والاعتناء بها، قال – صلى الله عليه وسلم- : ((ما بين بيتى ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)) (12).
- الإكثار من الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -; كما في قوله : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)) (13).
رابعا : حاجة الأمة إلى القدوات دوما بعد الرسول – صلى الله عليه وسلم- :
إن الاقتداء بالرسول – صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله تعالى ليس بالموضوع الهين، فإنه أمر جلل، والأمة الإسلامية اليوم، وهي تشهد صحوة وتوبة وأوبة إلى الله تعالى، وتشهد -في الوقت نفسه- مناهج وطرقاً مختلفة في الدعوة إلى الله.. هي أحوج ما تكون إلى معرفة منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنهج الأنبياء الكرام في الدعوة إلى الله؛ فليس هناك منهج يقتدى به في الدعوة والعلم والعمل إلا منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن تبعه من الصحابة الكرام والسلف الصالح .
فمنذ عهد الصحابة –رضوان الله عنهم- ومن تبعهم من الصالحين والعلماء والدعاة وأهل الفضل والتقى على مر العصور خلفوا سيرة الرسول – صلى الله عليه وسلم- في عطائها وإيحائها وتأثيرها؛ لأنهم ورثة الأنبياء، يقتدي بهم الناس في اتباع هدي الرسول – صلى الله عليه وسلم- والعمل بسنته، وبقيت سيرهم بعد وفاتهم نبراساً يضيء طريق محبيهم إلى الخير، ويرغبهم في السير على منهج الحق والهدى .
وعلى الرغم من اختفاء تلكم الشخصيات عن العيون إلا أن سيرها العطرة المدونة لا تزال بقراءتها تفوح مسكاً وطيباً، وتؤثر في صياغة النفوس واستقامتها على الهدى والصلاح، قال بشر بن الحارث : "بحسبك أقوام تحي القلوب بذكرهم، وبحسبك أقوام تموت القلوب بذكرهم" .
ذلك أن القدوة لا تزال مؤثرة وستبقى مؤثرة في النفس الإنسانية، وهي من أقوى الوسائل التربوية تأثيراً في النفس الإنسانية، لشغفها بالإعجاب بمن هو أعلى منها كمالاً، ومهيأة للتأثر بشخصيته ومحاولة محاكاته، ولا شك أن الدعوة بالقدوة أنجح أسلوب لبث القيم والمبادئ التي يعتنقها الداعية.
وفي التأكيد على أهمية القدوة الحسنة في الداعية أو الأستاذ وأثر ذلك في تلاميذه، نقل الذهبي : "كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلّمون منه حُسْنَ الأدب والسَّمت" (14).
وقبل أن نختم موضوعنا يجدر بنا أن نطرح تساؤلا مهما كثيرا ما يرد : ما السبب في قلة القدوة المؤثرة إيجابياً في الوسط التربوي ؟
وتكون الإجابة على هذا السؤال بالأمور التالية (15):
1- عدم توافر جميع الصفات التالية في كثير من الأشخاص الذين هم محل للاقتداء :
أ- الاستعداد الذاتي المتمثل في طهارة القلب وسلامة العقل واستقامة الجوارح .
ب- التكامل في الشخصية أو في جانب منها بحيث يكون الشخص محلاً للإعجاب وتقدير الآخرين ورضاهم، مع سلامة في الدِّين وحسن الخلق .
ت- حب الخير للآخرين والشفقة عليهم والحرص على بذل المعروف وفعله والدعوة إليه، فمن كان على هذه الصفة أحبه الناس وقدروه وتأسوا به، ومن فقد هذه الصفة لم يلتفتوا إليه .
2- عدم تسديد النقص أو القصور الذي قد يعتري من هم محل للاقتداء كالآباء والمعلمين وأهل العلم في صفة من تلك الصفات مما يصرف الناس عن التأسي بهم، وهذا يرجع إلى عدم إدراك هؤلاء للواجب، أو عدم تصورهم لأثر القدوة في التربية والإصلاح، أو لضعف شخصي ناتج عن استجابة لضغط المجتمع ، أو لسلبية عندهم نحو المشاركة في تربية الناشئة وإصلاح أفراد المجتمع .
3- مزاحمة القدوات المزيفة المصطنعة للتلبيس على الناس وإضلالهم عن الهدى وتزيين السوء في أعينهم، وصرفهم عن أهل الخير وخاصة الله، فقد أسهم الإعلام المنحرف والمشوب في صناعة قدوات فاسدة أو تافهة، وسلط عليها الأضواء ومنحها من الألقاب والصفات والمكانة الاجتماعية ما جعلها تستهوي البسطاء من الناس أو ضعاف النفوس والذين في قلوبهم مرض، وتوحي بزخرف القول الذي يزين لهؤلاء تقليدهم ومحاكاتهم .
4- "العناصر الخيرة قليلة في سائر المجتمعات، فما يكاد العامة يرون نموذجا جيداً حتى يسارعوا إلى الالتفاف حوله والتعلق به" (16).
ومن هنا تأتي الحاجة ملحة لأن نعيد إلى الناس بيان حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة والأسوة الحسنة للناس جميعا، ونعنى بتربية الأبناء والشباب، وإعطائهم الصورة الصحيحة للقدوة الصالحة، وإبرازهم الشخصية المستحقة للاتباع والاحتذاء .
ونختم موضوعنا؛ في الرسول – صلى الله عليه وسلم- القدوة، بأن المسلم إذا راقب الله تعالى في عباداته ومعاملاته ودعوته وأَجْرَاها وَفْقَ ما أمر الله عز وجل; وما أمر رسوله – صلى الله عليه وسلم- كان مقتديا برسول الله – صلى الله عليه وسلم- .
اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد .
د. عبد اللطيف بن إبراهيم الحسين